الأربعاء، 19 أغسطس 2009

العرب وديمقراطية الإقصاء

العرب وديمقراطية الإقصاء

تأخذ الديمقراطية في الوطن العربي أشكالا و تمظهرات تبدو غريبة عن أصل الديمقراطية التي نبتت في بيئة خاصة وفي سياقات تاريخية و سوسيولوجية طبعت نشأتها وانجلائها في عالم كان يشهد ركودا سياسيا تميز بالفكر الاقصائي و الأحادي.

إن القارئ الجيد للتاريخ يلاحظ أن هناك مرحلة وسيطة بين التراكم التاريخي الذي تم في الغرب لتشكيل الديمقراطية بمفهومها الراهن-والتي تبقى في حالة بناء دائم وغير كاملة-وأشكالها الأولى الوسيطية، تمثلت في ظهور ما يسمى بعصر الأنوار.هذا العصر الذي شكل –برأيننا- لحظة فارقة في تاريخ الغرب من حيث إنتاجه للمعرفة الممهدة للتغيير، وهو الدور الذي مازال ينادي به المثقفون العرب الآن لإحداث تحول جوهري في المفاهيم المجتمعية السائدة والتي تعارض التحول من أنماط استبدادية في بعض الدول العربية إلى أنماط تشاركية.

الدرس الذي نؤكد عليه هنا هو أن ظهور فلاسفة ومثقفين ينادون بأفكار جديدة: الحرية، التقدم، السعادة، الطبيعة، الشعب... فانتقدوا الرقابة والقمع في مجال الأفكار والرأي والاقتصاد والسياسة رافعين شعار" دعه يعمل، دعه يمر"، حول بنية التفكير الغربي المجتمعي من نمط أحادي فردي غير معترف بمبدأ التغير ولا بمبدأ المشاركة، إلى منظومة فكرية-بالدرجة الأولى-وسياسية-بالدرجة الثانية-تتقبل الآخر وتتعايش معه وتقبله على علته.

ولقد جاءت أفكار فولتير المحافظة، ثم أفكار مونتسكيو الذي ميز بين الحكم الجمهوري والملكي والمستبد مبرزا القمع الذي يتسبب به هذا الأخير وأفكار جان جاك روسو الذي انتقد الاستبداد بجميع أشكاله و نادى بالديمقراطية والمساواة والحرية، لتشكل –كلها-روافد نحو التغيير التاريخي الكبير في تصور الغرب لأنماط الحكم والتعايش مع الآخر.كما أن تنظيم العلاقة بين ماهو دنيوي وماهو ديني مكن العالم الغربي من إحداث قطيعة مع تدخل الفكر الكنسي- الذي ظل جاثما على نفوس العلماء- في شؤون العلم والبحث عن المعرفة.

إن هذه القطائع في مجملها حررت طاقات الغرب وأعطته دفعة تاريخية كبيرة نحو الأمام مازال لحد اللحظة يتغذى منها ويقدم عن طريقها إنجازات فاقت تصور الإنسان عبر تاريخه الطويل.

و ارتبط مفهوم الديمقراطية بظهور مفهوم آخر مجاور هو مفهوم المواطنة الذي يقدم الناس ليس كأشياء أو ممتلكات للحاكم وإنما كأشخاص لهم حقوق مدنية وسياسية كاملة في كنف الدولة.

العرب وديمقراطيتهم:

يجب الإقرار منذ البدء أن محاولة تعميم المفاهيم المنتجة في بيئات سوسيولوجية محددة على بيئات أخرى يعتبر أمرا منافيا للمنطق السليم، وهو الأمر الذي يمكن تطبيقه على الديمقراطية.بمعنى آخر، إذا كانت المكاشفة تقول بأن العرب لا يطبقون الديمقراطية فإن المكاشفة تقول أيضا أن لهم نظامهم الخاص في المشاركة السياسية يطلق عليه "الشورى".

إلا أن الملاحظ على هذا النظام الذي وضعت أسسه الشريعة الإسلامية كمبدأ مهم في تجنب تعسف الأنظمة السياسية، أنه لم يشهد تطويرا فلسفيا وتأصيلا نظريا سواء كان سياسيا أو سوسيولوجيا حتى يتمكن من الاستجابة لحاجات المجتمعات العربية في المشاركة والاعتراف كما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية الغربية.* بمعنى لم نشهد في عالمنا العربي"عصرا للأنوار" الفكري على شاكلة ما شهدته أوروبا يمحص في مفهوم الشورى ويوجد له آليات للتطبيق ووسائل للتقويم بدون النظر إليه بشكل تقديسي غير قابل للمناقشة والأخذ والرد.

وهنا تحديدا تبرز مشكلة أخرى في العقل العربي وهي انطوائه في دوغمائيات مغلقة لا تخص النص القرآني- الذي هو بالفعل النص الأول والمرجع الأساس في أي تصور وبناء للمجتمع-، ولكن على مستوى انغلاق الفكر والإنتاج المعرفي في زوايا بنيت من التقاليد والعادات التي اقتربت في أحيان كثيرة إلى المقدس على الرغم من أنها منتوج إنساني صرف.

إن محاولة تطبيق الديمقراطية بالقوة وبدون معاينة سوسيولوجية لواقع البيئة العربية ومكوناتها التاريخية والنفسية يمثل تعسفا نخبويا غير مقبول وغير قابل للحياة في البيئة العربية.ولعل هذه المواقف ناتجة من انبهار بعض النخب العربية بالنموذج الديمقراطي الغربي مما أفقدها كل حس نقدي ملائم لطبيعة مجتمعاتها.

لو أخذنا بعض الوقت وقيمنا "الديمقراطية العربية" لتبين لنا عمق التناقض الواضح بين ما يعتبره بعض العرب ديمقراطية وبين ما جاءت به الديمقراطية نفسها من مفاهيم وتصورات للعالم الاجتماعي.

فالسلوكيات البسيطة اليومية العادية التي لا تلفت نظر أي أحد منا تمثل قمة الممارسات اللاديمقراطية بل إنها تصنف في خانة السلوكيات الاقصائية.وتبدأ الحكاية في الأسرة وتذهب إلى ما غيرها من مؤسسات رسمية وغير رسمية.فتصورنا عن الفرد/الشخص/الإنسان هو تصور مكاني ثقيل يجعل منه أقرب للشئ/المادة الخالي من الشعور والإحساس والآمال منه إلى إنسان كرمه الله بالعقل والقدرة على الفهم والتمعن في الأشياء.

إننا لا نثق في المقولات "المنافقة" التي تقول بأننا ديمقراطيون أكثر من الغرب وأننا نحترم حقوق الإنسان وبالمناسبة حقوق الحيوان والشجر والماء والسماء..

فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولنضع لحظات للمكاشفة ولنبدأ في التفكير وإعمال العقل في راهننا وفي تاريخنا وفي مستقبلنا وهي الأدوات الوحيدة التي ستمكننا من النهوض بعد طول نوم.

وتأخذ أدوات المكاشفة والمصارحة كامل مشروعيتها في إطار الوعي التاريخي بأهمية ممارسة النقد الذاتي الذي سيخلص إلى بناء نموذج من العقلية العربية المعاصرة التي تعي حجم أخطائها وإيجابياتها في علاقاتها مع ذاتها ومع الآخر.

كما أن هذا الفعل سيؤسس إلى أنماط ثقافية جديدة قد تعمم على كافة فئات المجتمع تتميز بالواقعية والعقلانية البعيدة عن الإفراط في العاطفية وتضخيم الأنا في مقابل واقع متردي تؤكده معظم الشواهد والأحداث.

ولعل إنجاز هذا الفعل سيشكل لحظة فارقة في تاريخنا المعاصر وفي مستقبلنا، إذ أن التطور الغربي وقوته ومنعته وبقاء مشروعية نموذجه الحضاري، كلها تأتت من قدرته على قول الكلمة الحق في اللحظة التي تتطلب فيها أن تقال بدون مجاملات ولا تنميق نثري طويل.وبدون خوف من ردة الفعل التي قد تشكل انهيارا للحظات التفاهم والتواصل.

وتقع على عاتق المفكرين العرب مسؤولية كبيرة سيسجلها التاريخ، فهم الوحيدين القادرين على تفهم الإشكاليات التي يمر بها الوطن العربي، وهم الوحيدين –أيضا-الذين يمتلكون الأدوات التي تستطيع أن تنظر وتستخرج آليات لحل كل الإشكاليات التي تراكمت بدون أن تجد لها حلا بعد.لقد حاول مفكروا عصر النهضة العربية أن يخوضوا في تلك الإشكاليات وقدموا تشخيصا مهما لواقع أمتنا العربية والحلول الممكنة لها، إلا أن تلك الإسهامات لم تجد من يحتضنها ويحولها إلى مشاريع مجتمعية قابلة للتنفيذ، وبقت نفس الإشكاليات حاضرة إلى وقتنا الراهن مع زيادة تعقدها نظرا لما طرأ عليها من إشكاليات جديدة ترافق تحول المجتمعات وتعرضها لتأثيرات العولمة بأشكالها المتنوعة.



* -لا يجب الإدعاء بكمالية النظام الديمقراطي فهو حتى إن كان يقدم إجابات معقولة للمشاركة في الغرب إلا أن فيه شوائب كثيرة تحتاج إلى وقفة أخرى .

ليست هناك تعليقات: